بعيدا من هنا، حيث المكان الذي تطير منه البجعات عندما يحل الشتاء، سكن الملك الذي كان له أحدعشر إبنا وابنة واحدة،كانت تدعى إليسا. كان الاخوة الأمراء يذهبون إلى المدرسة وعلى صدركل منهم نجمة وسيف إلى جانبه، كانوا يكتبون على ألواح من الذهب و الماس، وكانوا يجيدون القراءة و الكتابة عن ظهر قلب، مما جعلهم مميزين عن غيرهم. كانت أختهم الأميرة إليسا تجلس على كرسي صغير من الزجاج وكان لها دفتر صغير فيه صور.
كــان الأمراء سعداءا ولكن سرعان ما تحولت هذه السعادة إلى تعاسة ,ما بعدها تعاسة عندما قرر أباهم الملك الزواج من ملكة طيبة الظاهر شريرة الباطن..كانت لا تحب إطلاقا الأطفال و كانت أولى إهتماماتها التخلص من الأمراء الصغار حالما تسمح الفرصة لها بذلك,و أولى بوادر حقدها هذا ظهرت عندما وضع أحد خدمها الرمل في الشاي للأمراء الصغارعوض السكر بإيعاز منها أثناء حفل زفافها من أبيهم الملك .
لم يمض وقت طويل عليها في القصر حتى أقنعت أبيهم الملك بضرورة ترك تربيتهم و الإعتناء بهم لها,وبفعل سحرها النافذ و شعوذتها القوية خر لأمرها و أصبح عديم الجدوى و القوة,فأول ما فعلته أنها طردت الأميرة الصغيرة وأجبرتها على الإقامة الجبرية في إحدى مزارعهم,أما بقية الأمراء الذكور فسحرتهم و حولتهم لبجعات ولسوء حظها ولخطئ في تعويذتها السحرية تحولوا لبجعات غاية في الجمال,سرعان ما أخرجتهم من نوافذ القصر إلى الحقول و الغابات..
كان الوقت صباحا باكرا عندما مر الإخوة( الأمراء )البجعات فوق الكوخ الذي تنام فيه أختهم الأميرة إليسا ,ولم يكن يمكنها أن ترى جمال البجعات و طول أعناقها أو تسمع ذلك الصوت الصادر عن أجنحتهم أثناء الطيران ,عرجوا محلقين بإتجاه الغابة المظلمة وبعدها إلى شاطئ البحر البعيد.
كانت تمر الأيام على الأميرة الصغيرة متشابهات و كان عزاؤها الوحيد ورقة خضراء تلهو و تلعب بها و تنظر للشمس من خلال ثقب فيها لتتخيل أنها ترى عيون إخوتها وقبلاتهم لها على خدها.
كانت زوجة أبيها الملك رغم كل ما فعلته بها تحقد عليها لأنها كلما قرأت ترنيمة شعوذتها أخبرتها الأخيرة أن الأميرة إليسا أجمل منها,وكانت تتمنى لو أنها سحرتها لبجعة برية و تخلصت منها كباقي إخوتها ,ولكن إلحاح أبيها وإصراره على رؤية إبنته التي قارب عمرها على الخمسة عشر عاما ..منعها من إتمام مخططها.
في الصباح الباكر ذهبت الملكة الشريرة إلى الحمام، والذي بني من الرخام والمرمر، وزين بالوسائد الناعمة والسجاد الجميل,, حملت ثلاث ضفاضع صغيرة وسحرتها لتنفذ أمرها..فالضفضع الأول عليه القفز على رأس الأميرة إليسا كي تصبح غبية..والثاني عليه القفز على جبينها كي تصبح قبيحة,أما الثالث فعليه القفز إلى قلبها كي تشقى في جسدها الجميل و لا يستطيع والدها التعرف عليها,,وأتمت شعوذ تها برش حشائش مسحورة في حوض الماء كي تتمكن من السيطرة عليها و حولت الضفاضع الصغيرة لورود حمراء كي يسهل تنفيذ مخططها.
وعندما قدمت الأميرة الصغيرة سيقت إلى الحمام كي تلقى وعدها المشؤوم,فتحولت تلك الأميرة الجميلة لشكل آخر قبيح لم يكن حتى بإستطاعة أبيها التعرف عليها,وأكمل المخطط بطردها خارج القصر .
هامت على وجهها في الغابات و الحقول و الألم يعصر قلبها الصغير وكان أملها الوحيد المتبقي لها أن تجد إخوتها الأمراء كي يعيدوا لها إعتبارها و أبيها,,,دون أن تدري بعد بما حل بهم ..
أرخى الليل سدوله عليها بألوان الهموم ليبتل,فمالت عند جذع شجرة و اتخذت طحالبا برية فراشا و منزل ,لم تكن تفكر في مشرب أو مأكل ,بل إخوة وعزوة كانت يوما بهم في عــلـي,قضت ليلتها وهي بين مد كوابيس وجزرأحلام,تتعلق تارة بأشطان فرح للقاء الأحبة ثم تنقطع بها لتهوي في دوامات الترح.ظلت هكذا إلى أن أيقضتها أولى خيوط أشعة الشمس.
نهضت مهلوعة تتلفت حولها و تنادي بأعلى صوتها عل إخوتها يسمعونها أو مخلوق يدلها,,مشت في الغابة إلى أن وصلت غديرا صغيرا طلبا لشربة ماء أو عشبة دواء لألم جسدها الذي لم يكن بقوة عذاب نفسها و روحها.
فجأة ظهرت أمامها عجوزا من الغابرين عندها علم سير الأولين والمترفين..قالت لها(إليسا إخوتك تحولوا لبجعات جميلات)بفعل ساحرة و عند الليل يرجعون لهيئة بشر كما كانوا و هم يسافرون كل يوم من بلاد بعيدة إلى هنا بحثا عنك..ردت إليسا و الدهشة والحيرة تكسر الحروف و الكلمات على شفتيها (أين هم دليني أرجوك),فأجابتها (إمشي مع مجرى الغدير إلى مصبه في البحر و ستجدينهم هناك).شكرتها و هي تهرول و تجري .
وصلت ملتقى الماءبالماء لتجد إخوتها و تحمد السماء,وبعد عناق و دموع أشواق, قصت القصص ,وعرف السبب وبطل العجب,وبعد أخذ و رد قرروا الذهاب لمكانهم الجديد البعيد عن عيون الشريرة و معاناتهم المريرة ,إلى أن يجعل الله لهم مخرجا,باتوا ليلتهم فرحين بلقائهم,وحزينين بمنقلب حالهم من عيش رغيد إلى نوم على الحصى والرمل بعد أن رجعوا لهيئتهم كبشر عند المساء فتأثير السحر يسري في ضوء النهار فقط عليهم.
في الصباح وجد الإخوة شباك صيد قديمة مرمية على الشاطئ فأخذوها لتجلس أختهم إليسا و سطها ويحمل كل واحد منهم من جهة,طاروا الإخوة البجعات وإليسا ترتجف أحيانا خوفا و من لسع الهواء البارد عاليا فوق البحر,ولكن دفئ قرب إخوتها حولها كان سرعان ما يبدد هذه البرودة,إلى أن وصلوا لأرض جديدة عليها,كانت خضراءا بين ماء و جبال تطال السماء علوا,فيها أشجار طيبة الثمر وماء حلو كالسكر,عاشوا هناك سعداءا .
إعتاد الإخوة البجعات الطيران في سرب مع كل ضوء نهار والعودة عند الغروب ليرجعوا لهيئتهم البشرية و يقضون ليلتهم بجانب أختهم التي إتخذت من مغارة بيتا لها و لهم جميعا.
رأت يوما في حلم نفس تلك العجوز التي دلتها أول مرة على مكان وجود إخوتها,وقالت لها خلاص إخوتك من دنس السحر لا يتم إلا بتضحيتك بجمال و نعومة أناملك وجلد بشرتك وذلك بأن تحيكي و تنسجي و تخيطي لكل أمير بجعة قميصا أخضرا من أورق القريس اللاسعة,شديدة الحرقة..وأي كلمة تخرج من فيهك فيها هلاك أحد إخوتك..أفاقت من نومها مذعورة متألمة من هول ما رأت,وفرحة لمعرفة خلاص إخوتها حتى ولو كان الثمن ألمها الشديد,وحالما ذهب إخوتها كعادتهم دون أن تكلمهم ..باشرت في قطع أوراق القريس و هي تتألم وتإن من شدته دون أن تخرج صوتا واحدا حفاظا على حياة إخوتها.
في يوم خرج ملك هذه البلاد في رحلة صيد وحاشيته ومهرة الصيادين برفقته,ليسوقهم القدر إلى هذا المكان البعيد عن العمران ,وأول ما رآها سحره جمالها,كلمها ولكن لم تكن تستطيع إجابته رغم أنها أعجبت بوسامته,,إنزعج أحد الحشم لعدم ردها على الملك لكنه نهره وأبعده عنها ,وأمر بحملها مع الركب و العودة للقصر,كان يسترق النظرات إليها ولم يستطع إخفاء إعجابه الشديد بها,وكان يتمنى لو تستطيع التواصل معه بالكلام عوض إماآت بالعيون أو الرأس.
لما وصل الموكب القصر أمر لها بثياب فاخرة و حلي وقفازات حريرية لتغطي وتلف تلك الإلتهابات و الشقوق العميقة في يديها الناعمتين.
لم يصمد طويلا حتى طلب منها الزواج ولكن ما كانت تفكر فيه و أخذ كل تفكيرها هوحياكة قمصان نجاة إخوتها و خلاصهم ,وكأن الملك الوسيم فهم سرها دون أن تقوله له,فأخذها إلى غرفة صغيرة في القصر حيث وضعت فيها كل تلك الأوراق الحارقة والمنسوجة منها وقال لها لن أكون حجر عثرة في طريق ما كنت تنوين القيام به,ولكن أريدك بجانبي كزوجة متوجة..فرحت بما سمعت و رأت منه و إنحنت مقبلة يده,ودليلا منها على قبولها الإرتباط به ما دام هذا لا يعيق حياكة القمصان و خلاص إخوتها.
أقيمت الأفراح في أرجاء المملكة,ولكن كبير الأساقفة كان يرفض ويكره أن تتوج واحدة من خارج المملكة ملكة على البلاد و العباد,ولكن إصرار الملك على هذا الزواج جعله يرضخ لأمره مكرها.
كانت الملكة إليسا تذهب خلسة كل ليلة بعد نوم زوجها لتلك الغرفة لخياطة القمصان مخفية كل تلك اللآلام التي تعانيها عن الجميع حتى زوجها الملك.
وفي يوم إنتهت كمية أوراق القريس لديها,وكان لزاما عليها إحضار غيرها من مقبرة المدينة حيث تنمو هناك بكثرة,إنتظرت إلى أن نام زوجها وانتصف الليل , خرجت وحيدة من القصر إلى المقبرة كي تحضر ما يلزمها من هناك,رغم ما أشيع عنها و عن الجن و العفاريت الساكنين فيها,لم تأبه لكل هذا فالهدف أسمى و أنبل حتى و لو كانت هي نفسها قربانا و فداءا.
شاهدها كبير الأساقفة و هي تتسحب خارجة من القصر و تبعها ليوقع بها عند مليكه,ولما رأى من بعيد أنها لا تأبه لأصوات العفاريت و الجن في المقبرة ,قال أنها ساحرة وأوراق القريس ما هي إلا لشعوذة تمارسها للسيطرة على السلطان,.
رجعت الملكة إليسا غير آبهة لألمها أوما حولها,بل تريد أن تصل تلك الغرفة لتكمل نسيجها و خياطتها,فالفرج قريب ومضى الكثير و لم يبقى إلا القليل.
في الصباح أسرع كبير الأساقفة ليشي ويزيد كذبا ,و أحضر معه جمع من المنتفعين و الإنتهازيين قائلا..ما حكم السحر و السحرة في شريعتنا و عرفنا إلا الحرق على مرآ ومسمع الجميع..تردد الملك كثيرا وسأل الحرس و الشهود الذي أكدوا و حلفوا الأيمان,,حتى هي الملكة لم تنفي أو تدافع عن نفسها..
فقرر الملك و الأساقفة حرقها و حددوا موعد الغد لذلك وأعلن في البلاد ودعوا جميع العباد ليكونوا من الأشهاد.
كان تفكير إليسا الوحيد الإنتهاء من آخر قميص بين يديها قبل موعد حرقها ,وكانت ملائكة القلوب الطيبة تساندها وتخفف عنها إلى أن أنهت قميص آخر أخ لها ,ولكن كيف لها أن توصل هذه القمصان؟؟
جاءها ملاك الرحمة قائلا:لا تخافي و لا تحزني وأنت من ضحت بنفسها من أجل إخوتها,لن يضيع عملك هباءا:.
وعندما جاء موعد حرقها تشبثت بقمصان إخوتها و قال كبير الأساقفة فلتحرق هي و شعوذتها هذه, وضعت على عربة مكشوفة يجرها حمار,وهي تسمع شتائم الشامتين ,رغم أن هذا المشهد كان يحزن الملك لكنه لم يستطع تغيير الأمر أو لم يرد تبديل العرف عندهم.
على رأس تلة في طريق مكان المحرقة ظهر الإخوة الأمراء البجعات,لقد ساقهم القدر أو قل ما شئت!! فسارعت إليسا ونادتهم فطاروا و حطوا عندها على العربة أمام الجميع و في حيرة مما يشاهدون ,.وضعت على كل واحد منهم قميصا والدماء تنزف من يدها,قتحولوا إلى أشكالهم البشرية, إلا الأخ الأصغر الذي بقي بجناحي بجعة لأن كم القميص لم يكن كاملا..
خر الملك و من معه لها ساجدين بعد أن سمع منها و من إخوتها ما حدث لهم جميعا ,طالبا منها الصفح على ما كان سيرتكبه بحقها,متوعدا كبير الأساقفة و الأخرين بعذاب عظيم , لكن كبر قلبها و خلقها جعلها تتوسل إليه الصفح عن جميع الخاطئين.
عم المكان رائحة أجمل الورود ,وتلك النار الموقدة لحرق الملكة إليسا جعلت لشواء الذبائح وإقامة الأفراح إبتهاجا بهذا الحدث السعــــــيـــد.
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق