قصة نبيِّ الله نوح، أبي البشر الثاني، وأول رسول أرسلَه الله للناس؛ ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، تَحكي عن عناد قومه وإصرارهم على الشِّرك، وكيف عذَّبهم الله عزَّ وجل، ونجا سيدنا نوحٌ ومن معه، قصتنا تحمل في طِيَّاتها الكثيرَ من الدروس والعبر، وهي كذلك تمتلئ بالمشاعر والعواطف الجيَّاشة تستطيع الأمُّ من خلالها أن تزرع قيمًا وسلوكيات، وتغرس مفاهيمَ نافعة، ومنها:
• التحذير من خُطوات الشيطان وأنَّها سببٌ للهلاك.
• العلم سببٌ للنجاة من الشرك، والجهل سببٌ للوقوع فيه.
• الحذر من السُّخرية والاستهزاءِ بالآخرين؛ فلا فضل لعربي ولا لأعجمي إلا بالتقوى.
• المسلم يجب أن يكون شفوقًا على إخوته، رحيمًا بهم، يحب لهم الخير.
• الصبر على الدعوة إلى الله عزَّ وجل، وأن يسلك الداعي كلَّ السبل في سبيل هداية الخلق.
• الثِّقة بالله عزَّ وجل، والثبات على الحق فيه نجاتك.
• الصلة والقرابة الحقيقة بين الناس ليست بالدَّم أو بالنسب، وإنما هي قرابةُ الدين والعقيدة.
قبل البَعثة:
تبدأ الأمُّ قصتَها: "عاش أحفاد سيدنا آدم في الأرض، وبدؤوا يتكاثرون وينتَشرون، يعبدون الله عزَّ وجل وحدَه لا شريك له كما علَّمهم أبوهم آدم، حاول معهم الشيطانُ من جيلٍ لجيل أن يَصرِفَهم عن عبادة الله، ولكنهم كانوا أقوياءَ بدينهم فلم يستَمِعوا له أو يُطيعوه، ومع ذلك لم يمَلَّ ولم يستسلِم، وأصرَّ على أن يُخرجَهم من عبادة الله، ففكر في حيلة غريبة، مع أنها تأخذ وقتًا طويلاً؛ فقد كان صبورًا جدًّا"، تتوقَّف هنا الأم وتقول: "هذا الشيطان الخبيث يخطِّط ليغوي بني آدم، تُرى ما هي خطته الشريرة، وهل سيَنجح أم لا؟".
في هذه الفترة كان هناك خمسةُ رجال صالحين كانت أسماؤهم: "وَدًّا - سُواعًا - يغوثَ - يعوقَ - نَسرًا"، وكانوا يعبدون الله عزَّ وجل ويطيعونه، وكان الناس يحبُّونهم لطاعتهم لله، ويقتدون بهم، فلما مات هؤلاء الصالحون... تسكت الأم برهةً وتَخِفض نبرة صوتها، وتظهر الاهتمام ثم تستأنف: "بدأ الشيطان خطَّته"!!!
الخطة:
جاء الشَّيطان إلى أتباعِهم الذين كانوا يقتَدون بهم، ووسوَس إليهم أنِ اصنَعوا تماثيلَ تُشبه هؤلاء الصالحين، وسمُّوها بأسمائهم، فكلَّما رأيتم هذه التماثيل تذكَّرتم هؤلاء الصالحين، فتتشوَّقون لعبادة الله كما كانوا يعبدونَه"، تتوقَّف الأم وتنظر لطِفلها قائلةً: "يا لهذا الشيطان اللعين! أرأيت بُنيَّ خبثَه ومكرَه، هو يعلم أنه لو قال لهم: أشركوا بالله لن يُطيعوه، فكانت خطته الشريرة أن يبدأ بخطوة صغيرة أولاً، وهي أن يجعلَهم يصنَعون الأصنام، وبعد ذلك يجعلهم يُشركون بالله خطوةً بخطوة، وبالتَّدريج وبدون أن يَشعروا؛ ولذلك علينا أن نحذر من خُطوات الشيطان؛ فهو لن يقول لك: لا تُصلِّ، ولكن سيَبدأ بخطوة صغيرة؛ كأن يقول لك: لا بأس أن تؤخِّر الصلاة قليلاً، ثم يوسوس لك: لا بأس أن تنام وتصلي بعد أن تستيقظ، ثم يأتي إليك فيقول: أنت متعب، لماذا لا تَجمع الصلاتين معًا... ويظل يوسوس يومًا بعد يوم، حتى تقع في فخِّه، وتترك الصلاة نهائيًّا؛ ولذلك إذا وجدتَ الشيطان يوسوس لك بتلك الخطوات البسيطة فلا بد وأن نَستعيذ بالله منه، ونخالفه، ونسارع بالطاعة؛ حتى لا نقع في فخِّه، أليس كذلك بنيَّ الحبيب؟ تعالَ لنرى باقي خطة هذا اللعين".
وبالفعل وقَع هؤلاء القوم في الفخ، ولم ينتبهوا لخطوات الشيطان، وصنعوا التماثيل ولم يَعبدوها في البداية، فلما مات هؤلاء أيضًا جاء الشيطان لأبنائهم وجعل يُخبرهم أن آباءهم كانوا يعبدون هذه الأصنام، وكانوا يستَسقون بها المطر، فعبَدوها! تُظهر الأمُّ الأسى والحزنَ وتقول: وهكذا نجح الشيطان في خطته، واستطاع بخبثه أن يجعل الناس ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة تلك الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع، أتعلم ما أسباب اتِّباعهم للشيطان؟ وتنتظر تخمين الطفل ثم تقول: "السبب الرئيسيُّ هو الجهل، جهلهم سببُ وقوعهم في الشرك، فلو كانوا يعلَمون أن الله وحده فقط هو الذي يستحقُّ العبادة دون غيره، وأن كل هؤلاء البشر، وكل هذه المخلوقات هي عبيدُ الله تعالى لا تنفع ولا تضرُّ فلا نرفعها فوق منزلتِها، أو نقدِّسها، لَما استطاع الشيطان أن يضلَّهم ويوقِعَهم في الشرك، فالعلم بنيَّ سلاحٌ في وجه الشيطان، فلا يستطيع عندها أن يخدَعك أو يضلَّك".
وهكذا بدأ أول شرك على وجه الأرض، وجيلاً بعد جيل نَسِي الناس عبادةَ الله وحده، وانتشَر الشِّرك، وعكَف الناس على تلك الأصنام، يَصرِفون إليها الطاعات، يسجُدون لها ويخضعون، يَطلبون منها الرزق، يرجون منها النفع ويلتَمسون منها دفع الضُّر، ونسوا أن الله عزَّ وجل هو الخالق الذي يستحقُّ العبادة وحده، الرَّازق الذي يرزقهم، وهو وحده الذي ينفع ويضر، واستمرَّت هذه الحال سنواتٍ وسنوات، حتى أذن الله سبحانه وتعالى وبعَث إلى أولئك القوم سيدَنا نوحًا عليه السَّلام؛ ليُرشدهم إلى الطريق، ويَنهاهم عن عبادة الأصنام، ويهديهم إلى عبادة الله تعالى.
إرسال نوح عليه السلام:
كان نوحٌ رجلاً صالحًا، وكان على الفِطرة، مؤمنًا لم يَعبد الأصنامَ كما فعل قومُه، وهكذا كلُّ الأنبياء الذين أرسلَهم الله عزَّ وجل، اصطَفاه الله عزَّ وجل واختاره لِيَكون رسولَه في الأرض، يَدعو الناس إلى عبادة الله وحده دون سِواه، سمع نوحٌ لربِّه وأطاعه، وخرج على قومه، وبدأ رحلةَ دعوته لهم كما أمره الله تعالى.
فجاء لقومه وقال: يا قوم، اعبدوا الله عزَّ وجل وحده، ما لكم من إلهٍ غيره.
وكان سيدنا نوحٌ داعيًا مجتهدًا، عَطوفًا شفوقًا يحبُّ الخير لقومه، يدعوهم ليلاً ونهارًا، سرًّا وجهارًا، ينوِّع في دعوته، فمرَّة يخاطب عقولَهم فيُنادي فيهم: يا قوم، لا يستحق العبادةَ إلا الله عزَّ وجل؛ فهو الذي خلقَكم ورزقَكم، كيف تعبدون آلهةً لا تنفع ولا تضرُّ، لا تسمع ولا تبصر؟! ألم ترَوا هذه السماءَ الواسعة، وهذا القمر المُنير والشمس الساطعة، وتلك الجبال الشاهقة؟! مَن الذي خلَقها؟ أليس الله عزَّ وجل؟!
بل من الذي يُنزل المطر من السماء ويُنبت الأرض، ويَبعثُكم بعد موتكم؟ هو الله وحده فلا تعبُدوا غيره.
ومرَّة أخرى يُنذِرهم عذابَ الله ويخوِّفهم إن لم تَتركوا عبادة هذه الأصنام فسيُعذبكم الله عذابًا شديدًا، مع كل هذه المحاولات اختلفَت ردَّات فعل قوم نوح، فلمسَت دعوتُه قلوب الضعفاء والفقراء، الذين شعَروا برحمة الله عزَّ وجل وعظَمتِه فصدَّقوا نوحًا، ورجَعوا لعبادة الله وحده، وأما الأغنياء والأقوياء فاستهزؤوا بنوح وسَخروا منه وتجبَّروا في الأرض، ولم يَقبلوا إلا عبادة أوثانهم، وقالوا له بسخرية: أنت بشرٌ مِثلنا ولم يؤمِن بك إلا الحُقَراء والأرذال، فكيف تريدنا أن نتَّبعك؟! أتريدنا أن نتَساوى مع هؤلاء الفقراء؟!
تتوقف الأمُّ وتسأل: ما رأيك بنيَّ فيما قالوه؟ أيصحُّ أن نستهزئ بالناس بسبب فقرِهم أو لأنَّهم ضعفاء؟! هؤلاء القوم استهزؤوا بهم وسخروا منهم، ولكن برغم فقرهم فإنهم في الحقيقة أشراف؛ لأنهم اتَّبعوا الحقَّ والدين الصحيح، فأتباع الحق دومًا هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبَونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء[].
ديننا بنيَّ دينُ المساواة، دين الحريَّة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فاحذر بنيَّ أن تسخر من فقير أو ضعيف؛ فلعله عند الله عزَّ وجل خيرٌ منك.
تتابع الأم: ثم قال هؤلاء الأغنياء المتكبرون لسيدنا نوح: لو أردت أن نتَّبعك فاطرُد هؤلاء الفقراء؛ فيَستحيل أن تضمَّنا دعوةٌ واحدة، فردَّ عليهم سيدنا نوحٌ بكل لطفٍ وتذكير: لا أستطيع أن أطردهم أو أتخلَّى عنهم، كيف أطردُهم وهم آمنوا بي، وساعَدوني في دعوتي؟! بل من سيَمنع عني عذابَ الله لو طرَدتُهم؟!
وهكذا رفَض هؤلاء المتكبرون الإيمان بدعوة سيدنا نوح، واختاروا طريقَ الغَواية واتباع الشيطان، ولما رأوا أن سيدنا نوحًا لم يتوقف عن دعوته بدَؤوا يُسيئون الأدب معه، ويظهِرون له العداوة، بل وحتى توعَّدوه بالرَّجم، ومع ذلك كان سيدنا نوح صامدًا قويًّا بإيمانه، لم يُرهبه تهديدُهم، واستمرَّ في دعوته للناس سنينَ وسنين وسنين... تنظر الأم لطفلها وتسأله بابتسامة: أتستطيع أن تخمِّن كم ظلَّ سيدنا نوحٌ يدعو قومه؟ تنتظر تخمينَه ثم تُردف بنبرة استعجاب: "ألف سنة إلا خمسين عامًا! أتصدِّق ذلك بنيَّ؟ ما أعظم سيدَنا نوحًا وأرحمَه! ظل تِسعمائة وخمسين عامًا يدعو قومه بدون كللٍ أو ملل، أتَدري لماذا؟ لأنه يحبُّ الله عزَّ وجل ويحبُّ قومه ويريد لهم الخير، لا يريد أن يموتوا على الكفر فيَدخلوا النار، هو مشفقٌ عليهم، وهكذا المسلم يجب أن يكون شفوقًا على إخوته رحيمًا بهم، يحب لهم الخير".
استمرَّ سيدنا نوحٌ في دعوته سنوات وسنوات، كبار يموتون وصغارٌ يُولَدون ويَكبرون، متَّخِذين نفس طريق آبائهم وأجدادِهم؛ من الضلال والكفر، وكذلك كبر سيدنا نوحٌ في السنِّ وأصبح شيخًا، ولكنه لم يَضعُف، بل ظل ثابتًا ثبات الجبال، قويَّ الإيمان، يحاول جهدَه لِيُؤمن به الناس، فكانوا يَضربونه حتى يسقط، فيُلقونه في قعر بيت، يظنُّون أنه قد مات فيَخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عز وجل[3].
إصرارٌ عجيب ورغبة قويَّة في هدايتهم، إلا أنهم تمادَوا في غيِّهم وطغيانهم، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر الجيلَ بعد الجيل، فلا يأتي قرنٌ إلا كان أخبثَ مِن الذي قبله، حتى إن كان الآخرُ منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادِنا هكذا مجنونًا، لا يقبلون منه شيئًا، وهنا حدث أمرٌ عجيب، تظهر الأم الاهتمام والترقُّب؛ لتثير انتباه طفلِها، ثم تقول: أوحى الله عزَّ وجل إلى سيدنا نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، قُضي الأمر يا نوح، فلا تُتعب نفسك في دعوتهم ولا تَرجُ إيمانهم، فلا تحزن؛ فإن الله مُهلكُهم ومُنجِّيك أنت ومَن آمن معك.
دعوة سيدنا نوح:
لما علم سيدنا نوحٌ وأيقن أنه لن يؤمن أحدٌ منهم دعا الله عزَّ وجل وسأله أن لا يترك على هذه الأرض أحدًا من الكافرين؛ فإنك يا رب إن أبقيتَ منهم أحدًا أضلُّوا عبادك الذين تَخلُقهم بعدهم، ولا يَلِدون إلا فاجرًا في الأعمال كافرَ القلب؛ وذلك لخبرته بهم ومُكثِه بين أظهرهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا[].
فاستجاب الله عزَّ وجل له، ووعَده أنه سيُنجيه وأهله إلا امرأتَه؛ لأنها كانت كافرة، وأوحى الله إليه بأمرٍ عجيب، تتوقف الأم وتتساءل: تُرى كيف سيُهلك الله عزَّ وجل هؤلاء الكفار؟ وكيف سيُنجي الله سيدنا نوحًا وقومه؟! وما هو هذا الأمر العجيب الذي أوحاه الله لنبيِّه نوح؟ تعال لنعرف.
سفينة الإنقاذ:
لَمَّا أراد الله عزَّ وجل أن يطهِّر الأرض من الظلم والكفر أوحى الله عزَّ وجلَّ لسيدنا نوحٍ أن يقوم ببناء سفينةٍ عظيمة؛ من أجل إنقاذ المؤمنين الطيِّبين، الذين آمَنوا بالله تعالى واستجابوا لدعوة النبيِّ نوحٍ عليه السلام، وبالفعل أقبل سيدنا نوحٌ على عمل السفينة، وتوقَّف عن دعوة قومه، وجعل يقطع الخشب، ويَضرب الحديد، ويهيِّئ عدة الفُلك من القَار وغيره مما لا يُصلحه إلا هو، وبَدأ المؤمنون الذين معه يساعدونه، فالأمر لم يكن سهلاً، فهذه سفينة كبيرة جدًّا، سفينةٌ لإنقاذ البشرية ومختلِف أنواع الحيوانات، فكان الأمر متعبًا شاقًّا، ويحتاج لصبر شديد؛ لتكتمل السفينة، وتصبح جاهزة.
وخلال بنائهم للسفينة جعل قومُه يمرُّون به وهو في ذلك من عمله، ولما رأَوه يبني السفينة - ولم يُشاهدوا قبلها سفينةً بُنِيَت - قالوا: يا نوح، ما تصنع؟ قال: أبني بيتًا يمشي على الماء! فعَجِبوا من قوله وسَخِروا منه، وكانوا يضحَكون يقولون باستهزاء: يا نوح، قد صرتَ نجَّارًا بعد النبوَّة! فكان يرد عليهم بهدوء: إذا كنتم تسخَرون منَّا الآن ومِن سفينتنا فإنا سنسخَر منكم غدًا عند الغرق، وإن كنتم تهزؤَون منا اليوم فإنا نهزأ منكم في الآخرة؛ كما تهزَؤون منا في الدنيا!
تُظهر الأم الحزن وتقول: هكذا هم أهل الباطل دومًا؛ يَسخَرون من أهل الحق، يستهزئون بهم، يضحَكون منهم، متصوِّرين أن الدنيا ملكٌ لهم، ولا أحد سيَغلبهم، وأن العذاب بعيدٌ عنهم، أعماهمُ الشيطان عن الحقِّ فتكبَّروا، واغترُّوا بحلم الله عزَّ وجل.
ولكن مع ذلك كان سيدنا نوحٌ والمؤمنون أقوياءَ بإيمانهم، واثِقين في نصر الله وحمايته، يعلمون أنَّ الله لن يُضيعهم، فلم يَلتفتوا لكلامهم ولم يتأثَّروا به، وهكذا يجب أن يكون المؤمن قويًّا، واثقًا، ثابتًا؛ ما دام على الحق، فلا يهمُّه مَن يسخر منه أو يستهزئ به، ويعلم أنَّ ثباته على الحق فيه نجاته.
وبعد سنوات طويلة من العمل والجهد والصبر، اكتملَت السفينة العظيمة، أصبحَت جاهزةً تمامًا لمهمَّتها العظيمة، وأوحى الله عزَّ وجل لنبيِّه نوح: إذا فار التنُّور ورأيتَ الماء على وجه الأرض، فاركَب أنت ومَن معك في السفينة، وأمر الله عزَّ وجل سيدنا نوحًا أن يَحمل في السفينة المؤمنين الذين آمَنوا به، وأن يأخذ من كلِّ نوع من النباتاتِ والثمار، والطيور والدوابِّ والحيوانات زوجَين ذكَرًا وأنثى؛ حتى يُحافظ على هذه الأجناسِ ولا تَنقرِض.
تبتسم الأمُّ وتقول: تخيَّل بنيَّ كيف سيكون الأمر، وكأنَّه حديقةُ حيوان كبيرةٌ، فيها جميع أصناف الحيوانات، أظن الأمر سيكون ممتعًا، أليس كذلك؟
كان سيدنا نوح قد بَنى السفينة، وجعل فيها ثلاثَ طبقات؛ الطبقة السُّفلى للدوابِّ والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العُليا فيها الطَّير، وأخيرًا حانَت اللحظة الحاسمة.
الطُّوفان:
جاء اليوم الرهيب، وفار التنُّور، وبدأ الماء يَظهر على وجه الأرض، علم نوحٌ أنَّ وعد ربه قد جاء، فأسرع نوحٌ يَفتح سفينته فأدخَل الحيواناتِ والطيورَ كما أمره الله، وبدأ يدعو المؤمنين به للدخول فيها، صَعِد أهلُ سيدنا نوح جميعُهم إلا زوجتَه الكافرة، فلَم تصعَد إلى السفينة، وبحَث نوحٌ عن ابنه فلم يجده!
وفجأةً (تتغير نبرةُ الأم هنا؛ لتكون أكثر إثارة، وتشد انتباه طفلها) بدأَت السماء تمطر مطرًا شديدًا، وينهَمِر منها الماء بكميَّات لم تَحدث من قبل، وخرجَت المياه من كل مكان في الأرض، والتقَت أمطارُ السماء بماء الأرض، وبدأت المياه ترتفع، وترتفع، وترتفع، اشتدَّت الرياح، وارتفعت الأمواج، وفجأة رأى سيدنا نوحٌ ابنَه، خاف عليه من الغرق، فنادى عليه وقال: "يا بنيَّ اركَب معنا في السفينة، آمِن بالله ولا تكن مع الكافرين فتَغرَق"! ولكن الابن الكافر رفَض وأصرَّ على كفره، وصاح قائلاً: كلاَّ، سوف ألجَأ إلى ذلك الجبل الشاهق؛ ليَحمِيَني من الغرق!
تنظر الأم لطفلها قائلةً: للأسف! ظنَّ هذا الشاب البائس أن الطوفان لن يَصِل لرؤوس الجبال، ولم يعلم أن الله عزَّ وجل قد قضى ألاَّ يكون هناك ناجٍ على وجه الأرض إلا فقط أصحاب السفينة، وأن الله إذا قضى أمرًا فلا يستطيع أحد أن يردَّه.
نظر إليه سيدنا نوحٌ نظرة أسًى وإشفاق وقال: لا معصوم اليوم من عذاب الله يا بنيَّ إلا من رَحِمه الله بلطفه وإحسانه، لا جبال ولا مخابئ، ولا حامٍ ولا واقٍ، إلا مَن رحم الله، وفي لحظةٍ (تتابع الأم لتقول بحزن): أتت موجة هائلة قويَّة باعدَت بين الأب وابنه، فلم يَعُد سيدنا نوحٌ يراه، وابتلعت هذه الموجةٌ العالية الابنَ في داخلها وكان مصيره الغرقَ مع الغارقين!
حزن سيدنا نوحٌ على ابنه، وأشفق عليه، فرفع يده إلى السماء، وتضرَّع إلى الله عزَّ وجل وقال: يا رب، لقد وعدتَني أن تنجي أهلي جميعهم إلا امرأتي، وإن ابني مِن أهلي! فكان الردُّ من الله العظيم أنه ليس من أهلِك الذين وعدتُك بنجاتهم؛ لأنه كان كافرًا.
أدرك نوحٌ أن ابنه لم يكن مؤمنًا، ولم يصدِّق رسالته، فاستسلم لأمر الله ورَضي به، واستغفَر ربَّه على سؤاله نجاةَ ابنه الكافر.
تقول الأم: انظر بني، هنا درسٌ عظيم أراد الله عزَّ وجل أن يعلِّمه لنبيِّه نوح ويعلِّمنا أيضًا أن الصِّلة والقرابة الحقيقة بين الناس ليست بالدم أو بالنسب، وإنما هي قرابةُ الدين والعقيدة، فمع أن موت الابن الذي ربَّاه في حِضنه، وأحبه حبًّا جمًّا كان مؤلِمًا لقلب سيدنا نوح، فإنَّ حبَّه لله عزَّ وجل وانقيادَه له فاق حبَّه لولده، فأبدًا لا نقدِّم حبَّ أحد على حب الله في قلوبنا، لا حبَّ أبٍ أو أمٍّ أو ابن، بل يكون حبُّ الله أولاً ثم الآخرين؛ ولذلك فمع محبة سيدنا نوح لولَدِه فإنه قدَّم حب الله عليه، واستسلم لقضاء الله؛ طلبًا لرضا الله سبحانه.
النهاية:
ما زالت السماء تهطل بالأمطار الغزيرة، والأرض تتفجَّر بالمياه الكثيرة؛ الأمواج عالية، والرياح هائجة، والسفينة تشقُّ طريقها وسط تلك الأمواج التي تشبه الجبال، وتمرُّ الأيام والأيام، ويستمر الطوفان مدةً لا يعلمُها إلا اللهُ عزَّ وجل، وقد هلَك كلُّ حي على وجه الأرض، ولم يعُد باقيًا من الأحياء إلا النَّاجون في السفينة.
ولما أراد الله أن تستقرَّ السفينة على اليابسة أمَر الأرض أن تبلَع الماء، والسماءَ أن تتوقَّف عن المطر فامتثَلَتا لأمر الله، فابتلعَت الأرض ماءها، وأقلعت السماء، فنَضِب الماءُ من الأرض، وبدأَتِ الرياح تهدأ، والغيوم تنقَشِع، والشمس تُشرق، ومع الوقت ظهرَتِ الهضابُ والتلال والأودية، ورسَتِ السفينةُ على سطح جبل الجوديِّ، ثم أوحى الله عزَّ وجل لسيدنا نوحٍ أنِ اهبط من السفينة بسلام وبركاتٍ من الله عزَّ وجل، أنت ومن معك من المؤمنين، وغيرهم من الأزواج التي حمَلها معه.
فنزل المؤمنون من السفينة، وانطلقَتِ الحيوانات والطيور تستأنف حياتها من جديد، وابتدأَت العمارة في الأرض، وأخذ الناس يتوالَدون ويتناسَلون، ويعبدون الله عزَّ وجل وحده لا شريك له، بدون ظُلم، بدون شرور، بدون شِرك، بعد أن أدَّى سيدنا نوح رسالته التي أرسله الله بها فأُهلك الكافرون، ونُجِّي المؤمنون، وعاشوا جميعًا في سلام.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ * وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [هود: 25 - 49].
كلمات ذات صلة
قصص الانبياء
قصة نوح
قصة نبي الله نوح
قصص من القران
كلمات ذات صلة
قصص الانبياء
قصة نوح
قصة نبي الله نوح
قصص من القران
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق